تغطية مباشرة

ماتي ديوب: درس في الوثائقي الحقيقي..

ثقافة
الإثنين ٢٦ فبراير ٢٠٢٤
17:17
استمع المقال
بلال مرميد، مسؤول القسم الثقافي بميدي1 وميدي1تيفي
استمع المقال

في السينما، هناك صنفان من المخرجين يشاركون في المهرجانات العالمية الكبرى.. مخرج يريد أن يكون الأشهر، ومخرج يرغب في أن يكون الأفضل بسينماه. السينغالية الفرنسية ماتي ديوپ، من الفئة الثانية. هنيئاً لها، وهنيئاً لإفريقيا بها. قبل أن أتحدث عن شريطها المتوج في برلين، والذي منحت فيها صوتاً للتماثيل التي سرقها الاستعمار وأثث بها متاحفه، هناك تفاصيل مهمة، يجب أن أطلق سراحها اليوم.
من أين أبدأ؟ وهل من الضروري أن أشرح؟ وحتى إن وصلت الرسالة، هل سيفيد الأمر في شيء؟ لا أعرف، وما يهمني حالياً هو أن أشرح، وربما قد يكون هناك من يستوعب قليلاً.. فقط قليلاً..
قبل أشهر، كتبتُ ركناً يخص أهمية الفيلم الوثائقي، واحترام شروط الاشتغال على الوثائقي بعد أن كثرت المقاطع المصورة والمجمعة التي ينتجها من يسميهم الجميع بصناع المحتوى على الويب، أو أولئك الذين يمنحون دعماً ويختفون هم وما يرتكبونه في حق هذا الصنف. قلت حينئذ بأن ما أراه هو أشياء مصورة، وليست أفلاماً وثائقية، حتى ولو منحت ترخيصاً للعرض في القاعات. رجع الصدى لم يتأخر، ومئات ممن أحسوا بأنهم مستهدفون بكلامي، خرجوا ليردوا عبر منصاتهم الافتراضية. بعض الردود كانت تناقش وهو أمرٌ مرحب به على الدوام، وأخرى لجأت للتهجم لأنني لامست الجرح وهو ملتهب. عبر بعضهم ليذكرني بأن أغلبية ما أشاهده يجب أن يحظى بالتشجيع، وبأن أقبل بتسمية كثير من أشياء بالوثائقيات ما دامت في أغلبها محاولات فردية، وليست من إنتاج قناة عمومية أو حاصلة دعم سينمائي.
خطت اليد هذا التمهيد الطويل، لكي أعود وأذكر مرة أخرى بالوثائقي الحقيقي، وأهميته، والطريقة الصحيحة للاشتغال عليه. في برلين، المهرجان الأكبر عالمياً في بداية كل عام، منح شريط السينغالية الفرنسية ماتي ديوپ بالدب الذهبي. الوثائقي Dahomey، برأسمال زمني من ساعة وسبع دقائق، تُوج بأهم جائزة، ومبدعة من أصل سينغالي كونت نفسها، وقررت أن تواصل دفاعها عن قارتها، تماماً مثلما فعلت في شريطها الطويل الأول Atlantique الذي تناولت فيه موضوع الهجرة، وحصلت به على ثاني أهم الجوائز في مهرجان كان في دورة العام 2019.
في Dahomey، كل شيء مدروس، والهدف من الوثائقي هو المزج بين شيء من استقصاء، مع كشف لأمور كانت خفية أو لا تحظى بالمتابعة، مع الوصول لخلاصات مبنية على توثيق و على بحث تاريخي. البنين كانت قد تقدمت بطلب رسمي لفرنسا في العام 2016 لاستعادة بعض من تماثيل ومنحوتات نادرة، نُهبت من مملكة داهومي سابقاً من طرف المستعمر الفرنسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. هذه التحف وزعت على متاحف فرنسية، وباريس وكوتونو أعلنا في العام 2021 عن إعادة ست وعشرين قطعة لمعقلها الأصلي. هنا بدأ اجتهاد المخرجة ماتي ديوپ، وشرعت في الاشتغال على موضوع حساس جدّاً، تفادت حكومات فرنسية عديدة الخوض فيه، وسبق لشريط قصير يحمل عنوان "التماثيل تموت أيضاً" للكبير الراحل آلان رينيه وكريس ماركر أن تعرض للمنع في فرنسا قبل سبعين عاماً، بعد تطرقه في تلك الفترة الحرجة سياسياً لما تعرض له الفن الإفريقي من طرف الاستعمار. ماتي ديوپ أحيت التماثيل، بل ومنحتها فرصة للتعبير عن ما عاشته في منفاها الباريسي بمتحف Quai Branly. في الخلفية، تعليقٌ صوتي مرافق، أعطته المخرجة لتمثال مجسم الملك غيزو. يحكي ما تعرض له بعد نقله قبل نحو مائة وثلاثين عاماً من مملكة داهومي (البنين حالياً)، وسنوات المنفى في المتحف الباريسي. في باريس، كان مجرد رقم، وتحديداً الرقم 26، والآن يعود إلى أرضه في متحف بكوتونو.

المخرجة ماتي ديوپ التي رافقت رحلة التمثال غيزو الرمزية، واستقباله، أرادت أن تقبر النسيان، وحاولت بشريطها الوثائقي أن تتطرق للكنوز التي ستعاد إلى موطنها الأصلي. لحد الآن يتعلق الأمر فقط بست وعشرين قطعة من ضمن سبعة آلالاف استولى عليها الاستعمار، وهو رقم قليلٌ جدّاً. هو وثائقي يشكل خارطة طريق للجانب المظلم في علاقةالمُستعمِر بالمُستعمَر، والحاجة لكي يسلط عليه الضوء ويفتح النقاش بدون خجل من الماضي، وبدون أن يبقى الرابح الأكبر هو الصمت، والخاسر الأكبر هو إفريقيا. في الوثائقي، تتابع كاميرا ماتي ديوب ندوة شارك فيها بِنينيون، وفيها تلتقي الآراء تارة، وتتباين تارة أخرى بخصوص قرار إعادة القطع الأثرية إلى مكانها الأصلي. مثلما جاء على لسان أحدهم، كبرنا مع رسوم متحركة لديزني وشاهدنا توم وجيري وغيره، لكننا لم نسمع أو نشاهد رسوماً تحكي تراثنا وماضينا الإفريقي. كثيره نُهب، وقليله أُعيد، وإعلامٌ غير مهتم. هو وثائقي عن قارتنا إفريقيا، حاز على الدب الذهبي في مهرجان برلين. أذكر بهذا الأمر حتى يستفيق أولئك الذين لا يعرفون معنى الوثائقي، وتحينوا ويتحينون الفرصة للتحجج بقلة الإمكانات حين تمنحهم أمثلة من وثائقيات غربية.

الأمر واضحٌ الآن، والمثال قدمته السينغالية ماتي ديوپ في وثائقي بإنتاج مشترك بين السينغال وفرنسا والبنين. عندنا، يصور كثيرون أشياء يصرخون فيها، ويجلبون أشخاصاً يقدمون شهادات في كل مرة، ويسمون ما اقترفوه وثائقياً، ويحاولون إجبارك على تقبل الفكرة، وتشجيع المحاولة. المحاولة الحقيقية سأكون أول من يشجعها، أما القمامة، أعزكم الله، مكانها الحقيقي معروف، وهو رأيي الذي دافعت وأدافع وسأدافع عنه. عدد المشاهدات على الويب لم ولن يكون معياراً، لأن التفاهة تتصدر التصنيف في كثير من بقاع، لكن الوثائقي الحقيقي هو الذي يستقصي، ويكشف، ويطرح الأسئلة الحقيقة، ويعرض الوثائق المدعِّمة لكل طرح. ماتي ديوپ في القمة، ومخرجات إفريقيات من ضمنهن المغربية أسماء المديرة، يعبرن للواجهة، ويقدمن وثائقيات محترمة.

موضوع إعادة الكنوز الإفريقية المسلوبة من طرف الاستعمار لأهلها في إفريقيا، سيعود الآن للواجهة أكثر من السابق، والأسئلة الحقيقية طرحت في الوثائقي، والسياسي مجبرٌ على الاستماع والإجابة لاحقاً. هنا تكمن قوة الوثائقي، وحنكة المشتغل على الوثائقي. هذا هو الوثائقي الحقيقي، أما من يصور أهله وأقرباءه وبعضاً من ضيوف حضروا بالصدفة، ما عليه سوى أن يشارك مقاطعه مع متابعيه لحصد اللايكات ومال الأدسنس. بعد مرور الوقت، لن يصلح ما صوره حتى في دفتر الذكريات.
هل فهمتم الآن لم انطلقت في الركن بأسئلة، أولها من أين أبدأ؟ وهل من الضروري أن أشرح؟ وحتى إن وصلت الرسالة، هل سيفيد الأمر في شيء؟ لا أعرف، وما يهمني حالياً هو أن أشرح، وربما قد يكون هناك من يستوعب قليلاً.. فقط قليلاً.. شريط وثائقي بإنتاج مشترك من السينغال وفرنسا والبنين، لمخرجة سينغالية يمنح أكبر جائزة في برلين. أود فقط أن أختم بالسؤال: أين هي وثائقياتنا التي تنال مال الدعم؟ أعتقد بأن السؤال واضحٌ، وأعتقد بأن الفرق كبيرٌ بين من يكرم قارته ويصنع وثائقياً للتاريخ، وبين من يترامى على الوثائقي ويُدعم، وفي آخر المطاف لا يشاهد أحدٌ ما ارتكبه. أقول هذا الكلام بدافع الغيرة لا غير، رغم اقتناع بأن كثيرين لا يخبرون معنى الغيرة، ولكم ولهم واسع النظر، والسلام.